مقالات وأبحاث علمية

الأسرة العربية وغرس قيم الإنتماء والمواطنة للبروفسير هالة مختار الوحش – كلية التربية في جامعة الأزهر – مصر

الأسرة العربية وغرس قيم الإنتماء والمواطنة

إعداد : أ.د هاله مختار الوحش
أستاذ أصول التربية بجامعة الأزهر

مقدمة:
تعدالأسرة هي عماد المجتمع وهي البوتقة التي تحيط بالفرد منذ ميلاده لتزوده بالقيم والمبادئ التي تساعده على التكيف مع المجتمع، وهي الوسط الذي اصطلح عليه المجتمع لتحقيق غرائز الإنسان ودوافعه الطبيعية والاجتماعية، وهي أكبر من كونها مجرد وسيلة لتحديد النسل وتربية الأبناء وإعدادهم للقيام بدورهم في الحياة الاجتماعية، فهـي كجماعة وظيفية تزود أعضائها بكثير من الإشباعات الأساسية . إن هذه المقومات التي تميز الأسرة عن باقي المؤسسات و الأنساق الأخرى جعلها تحتل مكانة رفيعة فـي المجتمع لكونها النظام الأمثل االقا در على أن يلعب دورا مهما في تحقيق و تفعيل مفهوم المواطنة لدى أفرادها مـن خلال الوظائف المنوطة إليه ، لا سيما إذا تم تأديتها بشكل صحيح و سوي . إذا كان دور الأسرة يتجلى بوضوح في تشكيل و ترسيخ قيم المواطنة في الظروف العاديـة فـإ ن دورهـا سيتضاعف لإضعاف كثيرة في ظل الظروف الراهنة التي تطغى فيها التحولات المتسارعة و المستمرة على الصعيد الدولي و المحلي . وانطلاقا مما سبق سنحاول أن نعرض في هذا المقال دور الأسرة في ترسيخ و تعزيز قيم المواطنـة لـدى الفرد خاصة في مراحله المبكرة من حياته مثل قيمة : الانتماء ،المساواة ، المسؤولية ،المشاركة ، الحرية و غيرها مـن القـيم الأخرى التي تشكل ركائز المواطنة و عناصرها الأساسية.

1–قيمة الانتماء : يشير مفهوم الانتماء إلى الانتساب لكيان ما يكون الفرد متوحدا معه ومندمجا فيه باعتباره عضوا مقبولا و له شرف الانتساب إليه ويشعر بالأمان فيه، إن الانتماء هو شحنة وجدانية كامنة بداخل الفرد في المواقف ذات العلاقة بالوطن على مستويات و مجالات مختلفة ،يمكن الاستدلال عليها من خلال مجموعة من الظواهر السلوكية الصادرة عن الفرد. ولما كانت الأسرة هي أولى المؤسسات الاجتماعية التي يوجد فيها الفرد وهي التي يناط لها مسؤولية تربيـة وتنشئة هذا الأخير من جهة ، وكما أن انتماء الفرد لوطنه لا يتأتى من فراغ أو من عدم لكونه شعورا ينمو و ينضج لديه في المراحل المبكرة من عمره من جهة أخرى فإنه مما لا شك فيه إن الأسرة تحتل مكانة رفيعة في هذا الشأن . إن حرص الوالدين على تدعيم صورة الذات عند أبنائهم و إعطائهم مزيدا مـن الثقـة بـالنفس و تشـجيع الاستقلالية لديهم في التعامل مع الأمور بدلا من إحباطهم إلى جانب إشراكهم في حياة الأسرة عوامـل محوريـة و فاصلة في جعل الطفل يشعر بانتمائه لأسرته و حبه لها .كما إن الطريقة التي يستمع بها الآبـاء لأبنـائهم عنـدما يتحدثون تقوي شعورهم بالانتماء للوسط الأسري الذي يعيشون فيه.

2–قيمة الولاء: يمثل الولاء للوطن قيمة جوهرية تدفع بالفرد إلى تمثل هذه القيمة بشكل فعلي و تجعله يدافع عن هذا الولاء ضد أي خطر يهدده و هذا ما يقع على عاتق و مسؤولية الأسرة تعليمه لأبنائها ليصبحوا بإمكانهم أن يكونوا محبين لـوطنهم و يدافعون عنه ان قيام الأسرة بشكل متكرر بالحديث مع الطفل بإنجازات هذا الوطن و الخيرات التي يقدمها للمواطنين و الأمـان الذي يمنحه لأبنائه كما تمنح الأسرة الحب و الحنان لطفلها و تدافع عنه يترك لدى الطفل أثر المحبة لهذا الوطن . انطلاقا من مكانة و حساسية قيمة الولاء عند الفرد لا سيما في سنوات حياته الأولى في محيط أسرته فلا بـد مـن واجب الآباء أن لا يتحدثوا مع أبنائهم في أمور و كلام غير لائق بوطنهم ، و ذلك بالتركيز و الوقوف فقـط عنـد العيوب و المساوئ من وجهة نظرهم ، لأن هذا يربي و ينمي فيهم قيمة الكراهية و النفور من وطنهم الذين ينتمون إليه في المستقبل ، و عليه لا بد من الآباء عند الحديث مع ابنائهم أن يتركوا لديهم انطباعا حسنا و مواتيـا لـوطنهم و لمجتمعهم المنتمين إليه مما يجعلهم أكثر ولاء و ذودا عنه عند الحاجة .

3-قيمة حرية التعبير واحترام الرأي الآخر : انطلاقا من فكرة مفادها إن الفرد لا يمكن أن يعيش بمعزل عن بني جنسه فان ذلك يحتم عليه بناء علاقـات اجتماعية مع الآخرين ، سواء كانت في أسرته التي وجد فيها أو مع اقرأنه في الحي الذي يقيم فيه أو مع من يشكل معهم علاقات زمالة في مجال العمل أو مكان آخ ر ، و ببناء هذه العلاقات المتعددة الأوجه تكون لهذا الفرد فرصـة أكبر في حرية التعبير عن رأيه كما تكون له فرصة الاستماع لآراء الآخرين ممن حوله ، تمثل حرية الفكر والتعبير أهم الحريات التي يتمتع بهاالانسان في حياته العامة، فهي تعني أساسا حرية الرأي الآخر والقدرة على التعبير عنه و ، معنى دلك أن يكون لهذا الإنسان الحق في أن يفكر تفكيرا مستقلا في جميـع مـا يكتنفه من شؤون، وما يقع تحت إدراكهم ظواهر و ، يأخذ بما يهديه إلى فهمه و يعبـر عنـه بمختلـف وسـائل التعبير. ويمكن القول بأن الحرية هي القدرة على اختيار ما نريد ، وفي الوقت نفسه التمتع بقدرة مماثلة على عـدم اختيار ما لا نريد ، فالشخص الحر هو الذي لا يقيده عائق إزاء ما يريد عمله ، فتشير بـذلك الفرصـة المتاحـة للارتباط بنشاط ما أو تحقيق هدف معين . إن قدرة الفرد على احترام رأي غيره و الاستماع له لا يأتي عفو الخاطر إلا من خلال محرض و فاعل ، أو من بقوم برعاية هذه القيمة و تعزيزها لاحترام رأي الآخر و الأخذ به على محمل الجد .

4- المساواة : تعد من أشهر المفاهيم الأخلاقية، بل إنها المطلب الأول لأي فرد في أي مجتمع، كما أنهـا شـك لت المحور الأساسي للعديد من النظريات الفلسفية قديما وحديثا، وعلى الرغم من الاختلافات الموجودة بين الثقافات في تحديد المقصود بالمساواة إلا أن هذه الأخيرة أصبحت اليوم تعبر عن الفضيلة مثل كلمة العدالة أو الحب لا يعترض عليها احد. والمساواة لا تعني أن يتساوى الناس في القدرات و الاستعدادات والإمكانات، لأن المخلوقات البشرية تختلف بتحصيلها واستيعابها و تقديم الواجبات الملقاة عليها، لكنهم يتساوون بالحقوق المعطـاة لهـم كبشـر و كمخلوقـات إنسانية، و المساواة لا تعني العمومية و لا تعني الإطلاق بل هي محددة ، و لهذا وضع القانون و وضعت الأنظمة و التعليمات التي تضبط السلوك الإنساني في المجتمع ، و جوهر المساواة هو أن يكون الناس في الأحكام عـل حـد سواء و استواء الإنسان في حقوقه مع غيره يستلزم استواءه معه في الواجبات التي تحبب للناس بعضهم البعض. إن قيمة المساواة كغيرها من القيم يتم تعليمها للفرد منذ الطفولة من خلال الأسرة باعتبارها قدوة له ، فالطفل يلاحظ كل شئ ، وهو يقلد كل شئ فعندما يشاهد الطفل الأسرة وهي تتصرف معه ومع باقي إخوته بشكل متسـاو ولا تفضل أحدهم على الآخر ، وتطلب من الطفل التصرف مع بقية أفراد العائلة بنوع من المساواة تصبح بالنسـبة إليه بمثابة قدوة حقيقية ، كما يجب على الآباء تعليم أبنائهم كيف يتصرفون مع اقرأنهم خارج محيط أسرتهم بشـكل متساو ، وأن لا يفرقوا بين غني وفقير و تعلمهم أن يلعبوا مع الجميع ليكون محبوبا بينهم بشكل دائم.

5- قيمة التعاون و المشاركة: إن التعاون والمشاركة هما عمليتان اجتماعيتان تقوم على التآزر والاعتماد المتبادل والعمل بروح الفريـق من أجل الإنتاج الأفضل، فالتعاون و المشاركة بين الأفراد في عمل مفيد لا في عمل ضـار يخفـف مـن الوقـت والتكلفة، وهما الأساس الذي يبني عليه الإنسان حياة إنسانية كريمة تليق به وبمكانته في المجتمع. ان للأسرة دورا هاما في غرس قيم التعاون و المشاركة الجماعية لدى أفرادها منذ الطفولة على اعتبار إنها المكان الأول الذي ينشئون و يترعرعون فيها ، فمن خلال حثّ أبنائها على التعاون في تسـيير و تـدبير بعـض الشؤون المنزلية التي تتلاءم و تتوافق و طبيعة أعمارهم إلى جانب دعوة الطفل للمشاركة في الحياة الأسرية بآرائه و أفكاره حتى و لو كانت في أمور ضيقة و محدودة ، هذا من شأنه أن يغرس فيهم هاتين القيمتـين –التعـاون و المشاركة – و تنمو أكثر هذه القيمة كلما أوكلت الأسرة لأبنائها مهاما و وظائفها أ كبر عند تقدمهم في السن ، كما أن هذه القيمة تترسخ أكثر كلما تواجد تعاون الوالدين فيما بينهم في الكثير من الأعمال المرتبطة بشؤون الأسـرة ، لأن هذا التعاون يجعلهم بمثابة القدوة بالنسبة لأبنائهم الذين سيكبرون و تكبر معهم هذه القيمة . إن العملية الإنمائية للمجتمع لا يمكنها أن تتحقق إلا بدعم الجماهير و مساندتها و مسـاهمتها الفعالـة فيهـا لكونها ضمانها الوحيد و شرطها الأساسي إذ، أن المشاركة الواسعة و بمختلف أشكالها تحقق الوحـدة الوطنيـة و يكتمل الاندماج القومي و تحقق أيضا الاستجابة الايجابية للمجتمع ككل.

6- قيمة المسؤولية و الالتزام : المسؤولية هي أن تؤدي العمل المطلوب منك على أكمل وجه في الوقت المحدد ، و هي تكليف و اختبار ، و المسؤولية لغة هي الأعمال التي يكون الإنسان مطالبا بها . أما المسؤولية اصطلاحا فهي المقدرة على أن يلزم الإنسان نفسه أولا و القدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزامه بواسطة جهوده الخاصة . كما انّه هناك من يعتبر المسؤولية حالة يكون فيها الإنسان صالحا للمؤاخذة على أعماله و ملزمـا بتبعاتهـا المختلفة . و المسؤولية هي الإحساس بالالتزام نحو الأشياء أو الأفراد و الأفعال التي تصدر عـن الإنسـان ، و هـي شعور مقترن بإحساس الفرد بالحرية و القدرة على اتخاذ القرار ، و بذلك فهي الشعور الذي يخلق الواجـب نحـو الآخر الذي هو المجتمع فالمسؤولية تقوم إذن على قيام الفرد بواجباته نحو الآخرين دون تذمر ، بل بشكل حر يعبر فيه عن مميزات المواطنة الصالحة . إن هذا التعريف للمسؤولية ليس بالأمر الهين الذي يأتي نتيجة صدفة ، و ذلك لأنها تأتي نتيجة تربية و إيمان و استعداد و شعور لقيمة المسؤولية منذ الطفولة . و على اعتبار إن الأسرة هي المكان الأول الذي ينشأ فيه الطفل و يقضي فيه أوقات أطول خاصة في هـذه الفترة ، و على اعتبار إن الأسرة تشكّل نموذجا بالنسبة للطفل يقتدي من خلالها بمن يسهرون على رعايته و تربيته فان لها الدور الأكبر في تعليم و ترسيخ الأبناء تحمل المسؤولية

خاتمة :
إن المواطنة الحقة التي تعبر عن وعي الفرد بالحقوق والواجبات والنظر إلى الآخر دون تعصب، وصيانة المرافق العامة، والحرص على المصلحة الوطنية، والتي تعبر أيضا عن مدى إدراك هذا الفرد لدوره في مواجهـة التحديات التي تواجه المجتمع لا يمكنها أن تتأسس وتظهر من فراغ أو من العدم، بل تنتج بفعل فاعـل و محـرض لها . و على اعتبار إن الأسرة هي الوسط و البيئة الأولى التي ينشأ و يترعرع فيها الفرد إلى جانب كونهـا مـن أكثر البيئات تأثيرا لهذا الأخير نبعت قيمتها و مكانتها في مجال تربيته و تنمية قيم المواطنة لديه . إن حديثنا عن دور الأسرة بتولي هذه المسؤولية الكبيرة لا يشير بالضرورة إلى أي أسرة مـن أ سـر هـ ذا المجتمع ، لأن المقصود من ذلك هو تلك الأسر المنسجمة المتفاعلة بين أفرادها ،وتلك الأسـر الواعيـة لـدورها ووظيفتها ولموقعه في المجتمع ، ماأ الأسر الأخرى التي ينتابها التفكك والتصدع ويسودها الاغتراب بين أفرادها ، ولا تعي إطلاقا بمدى مسؤوليتها ودورها في هذا المجال لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنتج لنا مفهوما يـرتبط ويمت بالصلة بالمواطنة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى