المتحور الهنديّ المزدوج ورعب تمدّد جحيم المقابر الجماعية
بقلم الأستاذة نهاد ميشال التن
أستاذة جامعية، مترجمة ومدقّقة لغوية
السلالة الثنائية التحوّر، أعراضها ومخاطرها
ها هي السلالة الهندية من فيروس كوفيد-19 المتحوّر تضرب بقوة هائلة فترعب الهند، جيرانها من البلدان المحيطة وباقي أنحاء العالم أيضا! وها هي الهند، أكبر مصنع للقاحات في العالم، تسقط صريعة أمام أول ضربة يأتي بها الفيروس المتحوّر فيتأكد للجميع أن الضربة القاضية ليست بالضرورة الأخيرة منها، بل قد يحصل أن تكون الأولى والأخيرة في آن معاً، سيّما في ظلّ وجود عدوّ لدود مضاعف القوة فوق ساحة بسيطة ساذجة لم تحسب لعدوّها حساباً وفاتها التجهّز لقدوم عاصفة هوجاء لا ترحم أحداً.
ففي الرابع والعشرين من شهر مارس الماضي، كشف خبراء هنود وجود سلالة جديدة من فيروس كورونا، تتميز بتداخل طفرتين وراثيتين ، ما يعدّ سابقةً منذ بدء الحرب على الفيروس خلال عام ونيّف.
الجدير ذكره أن هاتين الطفرتين الوراثيتين للفيروس ليستا مستجدتين، بل أصبحتا معروفتين من قبل خبراء الأبحاث والأوبئة، لكنّ خطرهما كان ضئيلاً طالما بقيتا مستقلّتين. تداخلهما سوياً هو ما جعل هذه السلالة أخطر من كل سابقاتها والأشد انتشاراً.
هذه السلالة المسمّاة “B.1.617″ لم تقلق منظمة الصحة العالمية كما فعلت سابقاتها من السلالات البريطانية، البرازيلية والجنوب أفريقية لكن المنظمة أكّدت مؤخّراً العثور على هذه النسخة في أحد عشر بلداً.
ما نعرفه حتى الساعة عن هذه السلالة التي صنّفت حتى الآن بالأخطر، هو قدرتها على التحايل والتخفي على جهاز المناعة البشري الذي لا يستطيع التعرف عليها، وبالتالي يقف عاجزاً عن إنتاج الأجسام المضادة لمقاومتها.
إضافة الى ذلك، تعتبر سريعة الإنتشار مقارنةً بسابقاتها. فبعد أن نفت الحكومة الهندية العلاقة بين هذه السلالة المتحورة والتزايد المخيف بعدد حالات الإصابات، ها هي الهند تعترف وتؤكد اليوم الصلة الحتمية بينهما، ما يفسر بما لا مجال للشك به، الأعداد الهائلة للاصابات اليومية. لذلك، بات خبراء الصحة يعتقدون بأنها أكثر عدوى بنسبة 60 % وبالتالي أكثر فتكاً بنسبة 67% من شكل الفيروس الأصلي الخالي من أي متحوّرات.
علاوة على ذلك، تبعاً لملاحظات الأطباء الهنود، تتسم هذه السلالة بأعراض جديدة تضاف الى العوارض الأساسية للفيروس، كتغيّر لون أصابع القدمين واليدين الى الأزرق، نزيف الأنف والحلق وحالة الإرتباك التي سمّيت علميا بال”ضباب الدماغي”.
الخطر الأخير لهذه السلالة الثنائية التحوّر هو ما قد يترجم بمقاومة وتصدي للقاحات المتوفرة. تتعارض آراء خبراء الأوبئة في هذا المجال، فمنهم من يؤكد عدم فعالية اللقاحات عليها، ومنهم من ينفي ذلك، لكن معظمهم يتّفقون على أمر واحد: إنخفاض هذه الفعالية، ما يضعنا أمام خطر داهم يتهدّد العالم و يضعف من قوة الأمل بالتخلص من هذا الفيروس، على الأقل، على المدى المنظور.
جحيم المحارق الجماعية
النظر الى نيوديلهي من السماء مرعب! كأنها ساحة حرب كونية أو آثار قنبلة نووية رميت فجأة من السماء. هذه هي حال العاصمة الهندية نيودلهي ومدن أخرى تحت وقع دمار المتحور الهندي والصور الجوية أبلغ شاهد على حجم الفاجعة.
فمنذ أسبوع تقريباً، سجّلت الهند، في سابقة منذ بداية انتشار فيروس كورونا، ما يزيد على 400 ألف اصابة و ألفي وفاة يومياً، ما يرفع عدد حالات الاصابات الهندية الى 20 مليوناً منذ شهر ديسمبر 2019.
فجأة، امتلأت طرقات دلهي بمحارق الجثث، ولون سمائها حجب حتى اشعار آخر. تزايد الطلب بشكل مطرد على المحارق الأساسية مما دفع السلطات المحلية لإقامة محارق مؤقتة في مآرب السيارات، الملاعب، قاعات الحفلات، أماكن العبادة والأماكن المخصصة أصلاً لمكبّات النفايات. نعم، الصور مؤلمة جدا، واللغة تعجز عن توصيف الوضع الكارثي و تحاول جاهدة نقل حجم المعاناة والأنين.
العمّال الذي يواكبون حرق الجثث أصيبوا بالاعياء وأصبحوا شبه عاجزين عن الاستمرار بالوتيرة نفسها. نسبة الإنهاك لم توفرّ البشر و تعدّته الى الحطب، فمخزون الهند من الحطب لم يعد كافياً لإيقاد المحارق والتخلص من الجثث. يضيف أحد العمّال متوجساً: ماذا لو ارتفع عدد الاصابات اليومية أكثر واشتدت سرعة زحف الموت؟؟
المستشفيات تذكّرنا بسرعة بتلك المستشفيات الميدانية في الحربين الكونيتين الأولى والثانية: مصابون يئنّون في كل ركن وزاوية. اولئك الذين يفترشون الأرض أكثر عدداً من الذين حظوا بسرير. امتلأت كل أقسام المستشفيات بمصابي كورونا، حتى اختنقت القدرة على احتوائهم. الدليل القاطع هو وفاة أم على هذا المدخل، وأخ أو جدّ في باحة المستشفى الخارجية.تسارعت وتيرة الموت بشكل قياسي، فأصبحت الهند تسجل، خلال غضون أيام، وفاة واحدة كل أربع دقائق !
تقف الأطقم الطبية الهندية اليوم عاجزةً عن التصدي لهذا العدو الصغير حجماً والمدمّر بخبثه ومراوغته. أحد الأطباء في ولاية مهارشترا، إحدى أكثر الولايات تضرّراً، أصبح يتخذ بنفسه قرار البقاء أو الموت للمصابين، فيتحول الشباب الى أولوية ويصبح الموت كأسا مبكرة على الذين اقتربوا من حافة الرحيل. توحدّ الهنود اليوم على أمرين اثنين: الموت ورائحته.
إتهامات للحكومة الهندية بالتقاعس وتجاهل التحذيرات العلمية
في شهر مارس الماضي، أكّد خمسة علماء أعضاء في منتدى مستشارين علميين للحكومة الهندية وجوب أخذ احتياطاتها والتحذّر من ظهور سلالة هندية مفترضة للفيروس تكون أشد عدوى وفتكاً من المتحورات السابقة. كما وأكد هؤلاء العلماء عدم تجاوب الحكومة الهندية لنداءاتهم، ما يشكّل اتهاما مباشراً لها بالتسبب بشكل أو بآخر، بالمصيبة التي ترزح تحتها البلاد.
الى ذلك، لم تمنع الحكومة الهندية قيام مهرجان “كومبه ميلا” الديني الذي يقيمه الهنود الهندوس كل سنة على ضفاف نهر الغانج وسمحت بتجمع أكثر من ثلاثة ملايين هندوسي لاقامة الشعائر المقدسة من دون كمامات، ضاربة بعرض الحائط بإرشادات منظّمة الصحة العالمية وبروتوكول القيود المتبعة لاحتوائه.
خطر يتهدد العالم
أمام هول المشاهد الآتية من الهند، هبّ العالم لحماية حدوده ومواطنيه، فلجأت معظم الدول الملاصقة للهند الى تعليق الرحلات الجوية اليها ومنع قدوم المسافرين منها. تمدّدت موجة المنع فطالت أخيرا وليس آخرا، تايلند، استراليا، ايران والكويت.
إزاء هذه الاجراءات المتسارعة، يجب اتخاذ أعلى درجات اليقظة من الحكومة اللبنانية المكلّفة حاليا تصريف الأعمال، والتشدّد بفرض القيود الصحية في بلد نظامه الصحي منهار أصلا وعاجز عن استقبال مرضاه أو توفير أدنى مقومات التطبيب والاستشفاء لمواطنيه، بلد يبكي هجرة أطبائه وممرضيه الى الخارج.
إن كانت الهند بكامل مقوماتها قد ألقت أسلحتها وأطلقت نداء الإستغاثة للمجتمع الدولي حتى يهب لمساعدتها، فما سيكون حالنا إن سمحنا وتسبّبنا عمداً أو عن غير عمد بانتشار السلالة الهندية بيننا؟؟ حينها لن ينفع الصراخ والاستجداء ويصبح الندم حليفنا الوحيد في أتّون الجحيم الزاحف …من الشرق.